لن أبدأ في حديثي من أول السطور، فالقصة
طويلة رغم قصر التجربة التي نعيشها في بناء الدولة. بل سأبدأ من حيث
ما وصلنا إليه من اختلاف عن أمور تعتبر من البديهيات والمسلمات. سبق لي
وأن قلت ثمة خلل ما في المعادلة السياسية لدى الساسة الليبيين تحديداً
.... اليوم بعد أن بات الوضع حرجاً .. قدّرت أنه من المناسب أن أمنح
لنفسي سانحة التفكير بصوت مرتفع رفقتكم جميعاً .وهنا لن استعرض
مشوار الثورة وتجلياتها الوظيفية .. وسألج مباشرة
إلى الضوء الذي في نهاية النفق .. أو الذي يفترض أننا نجده هناك .. ألا وهو
الدولة وعلاقتها بدينها.
لا يقول عاقل بأن الذي يحدث الآن في ليبيا هو
مخاض طبيعي لولادة الدولة، التي يتمناها كل مواطن ليبي. الذي يحدث
اليوم في ليبيا اختبار إلهي لتلك القلوب التي بكت
أو تباكت أيام الثورة والحرب، وتلك العيون التي احترقت حزنا وسالت
دموعها خوفا وطمعا؛ خوفا من فشل الثورة، وطمعنا في نصر مؤزر من الله
تعالى. المساجد تكبر، الناس في تراحم وتعاطف على بعضهم البعض بشكل لم نر له
مثيلا، صيام وقيام، دعاء وقنوت، حيثما وليت وجهك وفي كل مساجد ليبيا، ولا
حديث عن إسلاميين ، لا إخوان ولا سلفيين ولا جهاديين ولا أنصار شريعة ولا
غيرهم، الكل على قلب رجل واحد، ولا حديث أيضا عن علمانيين ولا ليبراليين
ولا عن أي مسمى من هذه المسميات المبتدعة.
انتصرت الثورة ! تغيرت الأمور،
وتبدلت المعايير والتصنيفات، أصبحنا نسمع عن أصناف وألوان ما كنا نسمعها من
قبل، فبعد أن مكننا الله من طاغية لم ير التاريخ له نظيرا؛ نسينا قول الله
تعالى: { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا
بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}، بل اصطف الناس إلى قسمين، أو
قل فُسْطَاطَيْنِ ، مؤيد لدين الله، وآخر محارب أو معارض أو غير راض على
تحكيم شرع الله، وهنا كان لزاما علينا أن نذكر بحديث النبي عليه الصلاة والسلام
في وصف هذا الزمان فقد قال : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
إِذَا صَارَ النَّاسُ فِي فُسْطَاطَيْنِ : فُسْطَاطِ إِيمَانٍ
لا نِفَاقَ فِيهِ ، وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لا إِيمَانَ
فِيهِ ، فَإِذَا هُمَا اجْتَمَعَا فَانْظُرِ الدَّجَّالَ الْيَوْمَ أَوْ
غَدًا "، والشاهد هنا أن الإيمان والنفاق لا يجتمعان في قلب رجل مؤمن،
ولا يمكن بأي حال أن نفصل شرع الله وحكمه عن حياتنا أو أن نؤمن ببعضه
ونكفر ببعض، تبعا للنفس والهوى، وأن نفصل بين الدين
وباقي شؤون حياتنا.
والمشكلة في نظري تكمن في (المفكرين والساسة)،
هذه النخبة الهرمة؛ بكل أطيافها وألوانها بعدما امتلكت زمام وسائل
الإعلام بأنواعها، استخدمت كل الطرق والوسائل لبث أفكارها ومعتقداتها،
الفاسدة النتنة، التي تنم عن جهل واضح بمنهج الله وشرعه، تلك الأفكار التي
جرت أصحاب القلوب الضعيفة المسكينة التي لا تملك من أمرها شيئا - اللهم إلا
أن تسمع و تجتر ما سمعت - وبحماس وانفعال مفتعل، أصبحت تلعب على عواطفهم
وتدغدغ مشاعرهم، ورسمت صورة ذهنية نمطية عن دين الله حتى أصبح الدين أمرا
يثير الخوف والرعب والفزع عند تلك الأنفس، وفي المقابل، رسمت تلك الصورة
الوردية الحضارية للغرب وبشكل مدروس وممنهج، وكأن الدين هو العائق الوحيد
في الوصول إلى ما وصلوا إليه، وأن صناعة مثل هذه التقدم والازدهار لا يكون
إلا بالانسلاخ عن الدين وفصله عن أمور الحياة، وما وصل إليه الغرب من حضارة
مادية ما كان لها ذلك إلا بقطع صلة الكنيسة عن الدين، ولكن أي مقارنة تلك؟
نحن كمسلمين لنا خصائصنا التي تميزنا عن باقي الأمم وشعوب الأرض، فديننا
لم يمسه التحريف ولا التزوير بإذن من رب السموات والأرضين، فليس لمؤمن أن
يقارن بين كتاب حرف وزور جيلا بعد جيل وكتاب محفوظ من عند رب العالمين { إنا نحن نزلنا الذكر
وإنا له لحافظون.}
في ظل ذلك ظهر علينا
من بني جلدتنا، أناس بتقربون للغرب بتحكيم غير شرع الله، وعلمنة
الدولة ، بل رأينا أبشع من هذا، في مواقع الإنترنت، وصفحات على
الفيسبوك خصوصا صفحات تحت أسم (أنصار الرذيلة في ليبيا) تدعو إلى التمرد على الأخلاق
ونشر الرذيلة بكل أشكالها القبيحة، وتدعو (لتحرير المرأة) في تمرد صريح
وواضح على الدين والقيم والأخلاق والعادات والتقاليد، هذا التمرد نشاهده
بطرق أخرى في قنوات )القوادة) قنوات (الشات) أو الدردشة
التي تضرب المواعيد واللقاءات الغرامية وتبادل أرقام الهواتف والإيميلات،
وفي نفس الوقت غياب
كامل للإعلام الذي يقود البلاد من مرحلة الثورة إلى
مرحلة البناء والتطور. ونتج عن ذلك كله ببغاوات
تردد - بوعي أو بدون وعي - ما يحاك ضد دينها وقيمها، بفلسفة وتشدق،
تثير الاشمئزاز، بأن الشريعة الإسلامية لا تصلح للعصر الحاضر؛ بحجة
أنها قديمة، وأن القوانين الوضعية هي التي تصلح لمثل هذه الأزمان.
فهؤلاء الذين يزعمون بذلك القول إنما يبنون رأيهم وحججهم على أسس باطلة واهية، لأن دين الله وشريعته الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، فهم جاهلون أو متجاهلون بكمال هذا الدين القويم، فلو درسوا أحكامه كما درسوا أحكام القوانين الوضعية لما قالوا ذلك، ولكن نتساءل هنا كيف يمكن لنا أن نوضح هذا اللغط ونبرهن على شرعية الشريعة؟ أمر يثير الاستغراب والحيرة! ولكن نحن مضطرون هنا للنزول لمبلغ علمهم وفهمهم كي تتضح الأمور ونجتمع على كلمة سواء ، فنقول: إذا عرفنا مفهوم كل من الدِّين والسياسة أمكننا أن نفهم علاقة كل منهما بالآخر. هل هي علاقة تضاد وتصادم، بحيث إذا وجد أحدهما انتفى الآخر؟ أو هي علاقة تواصل وتلاحم، بحيث لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا ينفصل عنه؟
فالإسلام الذي شرعه الله لم يدع جانبا من جوانب الحياة إلا وتعهده بالتشريع والتوجيه فهو دينا متكامل جامع، -بطبيعته- شامل لكل نواحي الحياة، المادية منها والروحية، فردية كانت أم اجتماعية. وقد خاطب الله تعالى رسوله بقوله: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) ،والقرآن الذي يقول:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ )، هو نفسه الذي يقول في نفس السورة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى )،وهو الذي يقول فيها: ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ )، ويقول في ذات السورة( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، فالقرآن عبَّر عن فرضية هذه الأمور كلها بعبارة واحدة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ.
فهؤلاء الذين يزعمون بذلك القول إنما يبنون رأيهم وحججهم على أسس باطلة واهية، لأن دين الله وشريعته الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، فهم جاهلون أو متجاهلون بكمال هذا الدين القويم، فلو درسوا أحكامه كما درسوا أحكام القوانين الوضعية لما قالوا ذلك، ولكن نتساءل هنا كيف يمكن لنا أن نوضح هذا اللغط ونبرهن على شرعية الشريعة؟ أمر يثير الاستغراب والحيرة! ولكن نحن مضطرون هنا للنزول لمبلغ علمهم وفهمهم كي تتضح الأمور ونجتمع على كلمة سواء ، فنقول: إذا عرفنا مفهوم كل من الدِّين والسياسة أمكننا أن نفهم علاقة كل منهما بالآخر. هل هي علاقة تضاد وتصادم، بحيث إذا وجد أحدهما انتفى الآخر؟ أو هي علاقة تواصل وتلاحم، بحيث لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا ينفصل عنه؟
فالإسلام الذي شرعه الله لم يدع جانبا من جوانب الحياة إلا وتعهده بالتشريع والتوجيه فهو دينا متكامل جامع، -بطبيعته- شامل لكل نواحي الحياة، المادية منها والروحية، فردية كانت أم اجتماعية. وقد خاطب الله تعالى رسوله بقوله: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) ،والقرآن الذي يقول:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ )، هو نفسه الذي يقول في نفس السورة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى )،وهو الذي يقول فيها: ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ )، ويقول في ذات السورة( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، فالقرآن عبَّر عن فرضية هذه الأمور كلها بعبارة واحدة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ.
فهذه الأمور كلها مما كتبه الله على المؤمنين، أي فرضه
عليهم: الصيام من الأمور التعبدية، والقصاص في القوانين الجنائية،
والوصية فيما يسمى (الأحوال الشخصية، (والقتال في العلاقات الدولية. وكلها
تكاليف شرعية يتعبد بتنفيذها المؤمنون، ويتقربون بها إلى الله، فلا يتصور من
مسلم قبول فرضية الصيام، ورفض فرضية القصاص أو الوصية أو القتال. وجميعها
تقول: كُتِبَ عَلَيْكُمُ. وقد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام ما ترك
أمرا يقربنا من الله إلا وأمرنا به، ولا ترك أمرا
يبعدنا عن الله إلا نهانا عنه، حتى تركنا على المحجة البيضاء: "ليلها
كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك" فالإسلام هو رسالة الحياة كلها،
ورسالة الإنسان كله، كما أنه رسالة العالم أجمع، لأن الدين كلٌ لا يتجزأ،
ومن هنا يتضح لنا أن ما ينادي به بعض ضعاف
العقول من فصل الدين عن باقي مجالات الحياة سواء الاقتصادية والاجتماعية
والسياسة؛ إنما هو ضرب من مكائدهم الهزيلة التي يحاولون بها هدم الدين.
وحتى تتضح الأمور أكثر، يجب أن نفرق بين الدين ورجال الدين، فالدين هو
المشرع الأساسي والوحيد للدولة، أما العلماء، فهم الدعاة والمبشرين
والواعظين لدين الله، ويجب عليهم أن يبتعدوا عن
ممارسة السياسة، لأن مهمة الدعاة الدعوة لله عز وجل وإتقان الدعوة
ودخول عالِم الدين إلى السياسة من أخطر الأمور، لأن الداعية الذي يعمل
بالسياسة إذا أخطا فإن خطأه يحمل على الدين. فما لكم أيّها المبطلون
كيف تحكمون .؟! وبأيّ كيل تكيلون .؟!
عبدالعزيز طاهر العريبي